من كتاب فتح البارى لابن حجر : باب السِّحْرِ


 من كتاب فتح البارى لابن حجر :

باب السِّحْرِ

 
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } .
وَقَوْلِهِ : { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وَقَوْلِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }. 
وَقَوْلِهِ : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَالنَّفَّاثَاتُ } .
السَّوَاحِرُ تُسْحَرُونَ تُعَمَّوْنَ
الشرح:
قوله: (باب السحر) قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان: أحدها ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئا فقد سحره ومنه إطلاق الشعراء سحر العيون لاستمالتها النفوس، ومنه قول الاطباء: الطبيعة ساحرة ومنه قوله تعالى: (بل نحن قوم مسحورون) أي مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث " إن من البيان لسحرا " وسيأتي قريبا في باب مفرد.
الثاني ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحوها ما يفعله المشعوذ من صرف الابصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وقوله تعالى: (سحروا أعين الناس) ومن هناك سموا موسى ساحرا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية كالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس.
الثالث ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) .
الرابع ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها بزعمهم، قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب - وهي سرقسطة - فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بعضهم بين الامرين الاخيرين كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم، قال أبو بكر الرازي في الاحكام له: كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى.
ثم السحر يطلق ويراد به الالة التي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر والالة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقى والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور.
وتارة بجمع الامرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ.
واختلف في السحر فقيل هو تخييل ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الاستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة، قال النووي: والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى.
لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال إن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الامراض أو ينتهي إلى الاحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الاول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني.
فإن كان بالنظر إلى القدرة الالهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة.
وقال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولان العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الاطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده بالتركيب نافعا، وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله: (يفرقون به بين المرء وزوجه) لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره.
قال المازري: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والاية ليست نصا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك.
ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي.
ونقل إمام الحرمين الاجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق.
ونقل النووي زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك.
وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر، لانه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين.
وقال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الاشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: (وجاءوا بسحر عظيم) مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا.
ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الابدان بالالم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك.
قوله: (وقول الله تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الاية) كذا للاكثر وساق في رواية كريمة إلى قوله: (من خلاق) وفي هذه الاية بيان أصل السحر الذي يعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الاول لان قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودا في زمن نوح إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضا فاشيا في قوم فرعون وكل ذلك قبل سليمان.
واختلف في المراد بالاية فقيل.
إن سليمان كان جمع كتب السحر والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الامر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود: هل أدلكم على كنز لا نظير له؟ قالوا: نعم قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا - وهو متنح عنهم - فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم: إن سليمان كان يضبط الانس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الانبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا، فنزلت هذه الاية.
أخرجه الطبري وغيره عن السدي، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولا بمعناه.
وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه ولكن قال: إن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته وقالوا: هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس.
وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق وزاد أنهم نقشوا خاتما على نقش خاتم سليمان وختموا به الكتاب وكتبوا به الكتاب وكتبوا عنوانه " هذا ما كتب آصف بن برخياء الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم " ثم دفنوه فذكر نحو ما تقدم.
وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السدي ولكن قال أنهم لما وجدوا الكتب قالوا هذا مما أنزل الله على سليمان فأخفاه منا.
وأخرج بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الايام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنتها تحت كرسيه ثم أخرجوها بعده فقرؤوها على الناس، وملخص ما ذكر في تفسير هذه الاية أن المحكي عنهم أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين هم أهل الكتاب، إذ تقدم قبل ذلك في الايات إيضاح ذلك، والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة من قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول) إلى آخر الاية، و " ما " في قوله (ما تتلو الشياطين) موصولة على الصواب، وغلط من قال إنها نافية لان نظم الكلام يأباه، و " تتلو " لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي وهو استعمال شائع، ومعنى تتلو تتقول، ولذلك عداه بعلي، وقيل معناه تتبع أو تقرأ، ويحتاج إلى تقدير قيل هو تقرأ على زمان ملك سليمان، وقوله: (وما كفر سليمان) ما نافية جزما وقوله: (ولكن الشياطين كفروا) هذه الواو عاطفة لجملة الاستدراك على ما قبلها، وقوله: (يعلمون الناس السحر) الناس مفعول أول والسحر مفعول ثان والجملة حال من فاعل كفروا، أي كفروا معلمين، وقيل هي بدل من كفروا، وقيل استئنافية، وهذا على إعادة ضمير يعلمون على الشياطين، ويحتمل عوده على الذين اتبعوا فيكون حالا من فاعل اتبعوا أو استئنافا، وقوله: (وما أنزل) ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر، والتقدير يعلمون الناس السحر، والمنزل على الملكين، وقيل الجر عطفا على ملك سليمان أي تقولا على ملك سليمان وعلى ما أنزل، قيل بل هي نافية عطفا، على (وما كفر سليمان) والمعنى ولم ينزل على الملكين إباحة السحر.
وهذان الاعرابان ينبنيا على ما جاء في تفسير الاية عن البعض، والجمهور على خلافه وأنها موصولة، ورد الزجاج على الاخفش دعواه أنها نافية وقال: الذي جاء في الحديث والتفسير أولى.
وقوله: (ببابل) متعلق بما أنزل أي في بابل، والجمهور على فتح لام الملكين، وقرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين وجرا بالفتحة، أو عطف بيان، وقيل بل هما بدل من الناس وهو بعيد، وقيل من الشياطين على أن هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن وهو ضعيف، وقوله: (وما يعلمان من أحد) بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذ بسكون العين من الاعلام بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يعلمانهم به وينهيانهم عنه، والاول أشهر، وقد قال علي الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم طلب، وقد استدل بهذه الاية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الاخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا، قال النووي: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالاجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر.
وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق.
قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين ا ه.
وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها.
وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لاحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره إما لازالته عمن وقع فيه، فأما الاول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الاوثان للاوثان لان كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به.
وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور، وسيأتي مزيد لذلك في " باب هل يستخرج السحر " قريبا والله أعلم.
وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة.
وفي إيراد المصنف هذه الاية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الاية على لسان الملكين: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه.
وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرا مجاز كإطلاق السحر على القول البليغ، وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الارض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم.
قوله: (وقوله تعالى: ولا يفلح الساحر حيث أتى) في الاية نفي الفلاح عن الساحر، وليست فيه دلالة على كفر الساحر مطلقا، وإن كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن ونفيه عن الكافر، لكن ليس فيه ما ينفي نفي الفلاح عن الفاسق وكذا العاصي.
قوله (وقوله أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) ؟ هذا يخاطب به كفار قريش يستبعدون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله لكونه بشرا من البشر، فقال قائلهم منكرا على من اتبعه: أفتأتون السحر، أي أفتتبعونه حتى تصيروا كمن اتبع السحر وهو يعلم أنه سحر.
قوله: (وقوله: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) هذه الاية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل، ولا حجة له بها لان هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل، قال أبو بكر الرازي في " الاحكام ": أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمي الزئبق حركها لان من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة.
قوله: (ومن شر النفاثات في العقد، والنفاثات السواحر) هو تفسير الحسن البصري أخرجه الطبري بسند صحيح، وذكره أبو عبيدة أيضا في " المجاز " قال: النفاثات السواحر ينفثن.
وأخرج الطبري أيضا عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنه النفث في الرقية، وقد تقدم البحث في ذلك في " باب الرقية".
وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في " الدلائل " بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس " أن عليا وعمارا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة " فذكر نحوه.
قوله: (تسحرون تعمون) بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وضبط أيضا بسكون العين قال أبو عبيدة في كتاب " المجاز " في قوله تعالى: (سيقولون الله قل فأني تسحرون) أي كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه؟ قال: ونراه من قوله سحرت أعيننا عنه فلم نبصره.
وأخرج في قوله: (فأنى تسحرون) أي تخدعون أو تصرفون عن التوحيد والطاعة.
قلت: وفي هذه الاية إشارة إلى الصنف الاول من السحر الذي قدمته.
وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه كما يقع من المسحور، والله أعلم.

اكتب تعليق

أحدث أقدم