من أذكار تفريج الكرب والبلاء


من أذكار تفريج  الكرب والبلاء

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه قال : " ما أصاب عبدا هم ولا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمتـه أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ! إلا أذهب الله حزنه وهمه ، وأبدله مكانه فرحا " .  
(  أحمد في مسنده - 1 / 391 - 452 ، وابن حبان في صحيحه 2372 )  موارد ) ، والحاكم في المستدرك ( 1 / 509 ) ، وابن الجوزي في " زاد المسير " - 9 / 191 ، والذهبي في " الطب النبوي " (25 ) ، والزبيدي في " إتحاف السادة المتقين ( 5 / 106) وقال الحافظ في " تخريج الأذكار " : حديث حسن ، وقد صححه بعض الأئمة - الكلم الطيب 122 ) .

قال ابن القيم – رحمه الله – في كتابه القيم " بدائع الفوائد " في شرحه لهذا الحديث :

 
إن الداعي به صدر سؤاله بقوله : "إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك" ، وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته إلى أبويه آدم وحواء ، وفي ذلك تملق له واستخذاء بين يديه ، واعتراف بأنه مملوك وآباؤه مماليكه ، وإن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه ، وأنه سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك ، ولن يأويه أحد ولم يعطف عليه ، بل يضيع أعظم ضيعة
.
 فتحت هذا الاعتراف : إني لا غنى بي عنك طرفة عين ، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده .
 وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهي ، إنما يتصرف بحكم العبودية ، لا بحكم الاختيار لنفسه . فليس هذا شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار .
وأما العبيد فتصرفهم على محض العبودية ، فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } (الحجر - 42 ) ، وقوله : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا } (الفرقان –63 ( .
 ومن عداهم عبيد القهر والربوبية ، فإضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه ، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه ، وإضافة ناقته إليه ، وداره التي هي الجنة إليه ، وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله : { وَإِنْ كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } (البقرة - 23 ) ، { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ } (البقرة  23) ، { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } (الإسراء - 1 ) .

وفي التحقيق بمعنى قوله " إني عبدك " التزام عبوديته : من الذل والخضوع والإنابة ، وامتثـال أمر سيده ، واجتناب نهيه ، ودوام الافتقار إليه ، واللجوء إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وعياذ العبد به ، ولياذه به ، وأن لا يتعلق قلبه بغيره : محبة وخوفا ورجاء .
وفيه أيضا : أني عبد من جميع الوجوه : صغيرا وكبيرا ، حيا وميتا ومطيعا وعاصيا ، معافى ومبتلى ، بالروح والقلب واللسان والجوارح
.
وفيه أيضا : أن مالي ونفسي ملك لك ، فإن العبد وما يملك لسيده
.
وفيه أيضا أنك أنت الذي مننت علي بكل ما أنا فيه من نعمة ، فذلك كله من أنعامك على عبدك
.
وفيه أيضا : أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده ، وإني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا
. فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة .
ثم قال : " ناصيتي بيـدك " ، أي أنت المتصرف في ، تصرفني كيف تشاء ، لست أنا المتصرف في نفسي
. وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين اصبعين من أصابعه ، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه ، ليس إلى العبـد منه شيء ، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ، ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره ، بل الأمر فوق ذلك .
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ، ولم يرجهم ، ولم ينزلهم منزلة المالكين ، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين ، المتصرف فيهم سواهم ، والمدبر لهم غيرهم ، فمن شهد نفسه بهذا المشهد ، صار فقره وضرورته إلى ربه وصفا لازما له ، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ، ولم يعلق أمله ورجاءه بهم ، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته
. 
لهذا قـال هود لقومه : { إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم  } (هود 56 ) .
وقوله : " ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك " تضمن هذا الكلام أمرين :
أحدهما : مضاء حكمه في عبده
.
والثاني : يتضمن حمده وعدله ، وهو سبحانه له الملك وله الحمد ، وهذا معنى قول نبيه هود : { مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا  } (هود - 56 ) ، ثم قال : { إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي مع كونه مالكا قاهرا متصرفا في عباده ، نواصيهم بيده فهو على صراط مستقيم
.
وهو العدل الذي يتصرف به فيهم ، فهو على صراط مستقيم ، في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه .
فخبره كله صدق ، وقضاؤه كله عدل ، وأمره كله مصلحة ، والذي نهى عنه كله مفسدة ، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ، ورحمته وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته .
وفرق بين الحكم والقضاء ، وجعل المضاء للحكم ، والعدل للقضاء ، فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي ، وحكمه الكوني القدري
. والنوعان نافذان في العبد ماضيان فيه ، وهو مقهور تحت الحكمين ، قد مضيا فيه ، ونفذا فيه ، شاء أم أبى ، لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته ، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه .
ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال ، وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه ، قال :" عدل فيّ قضاؤك " أي بالحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه
.
وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه ، وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه ، فإن كان حكما دينيا فهو ماض في العبد ، وإن كان كونيا فإن نفذه سبحانه مضى فيه ، وإن لم ينفذه اندفع عنه ، فهو سبحانه يقضي ما يقضي به . وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمرا ولا يستطيع تنفيذه . وهو سبحانه يقضي ويمضي ، فله القضاء والإمضاء .
وقوله : " عدل فيّ قضاؤك " يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه ، من صحة وسقم ، وغنى وفقر ، ولذة وألم ، وحياة وموت ، وعقوبة وتجاوز وغيره . قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } (الشورى –30 ) ، وقال : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ } (الشورى - 48 ) . فكل ما يقضي على العبد فهو عدل فيه . اهــ .
( بدائع الفوائد - ص 44 - 48 ) .

اكتب تعليق

أحدث أقدم