الحكمة في بقاء إبليس إلى آخر الدهر



الحكمة في بقاء إبليس إلى آخر الدهر

 

تحدث ابن القيم، رحمه الله، عن ذلك في (شفاء العليل) ووضحه، فمن ذلك:

1- امتحان العباد:

فمما ذكره رحمه الله تعالى: أنّ الله جعله محكّاً ومحنة يخرج به الطيب من الخبيث، ووليّه من عدوه، ولذا اقتضت حكمته إبقاءَه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه، ولو أماته لفات ذلك الغرض، كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر، ولو أهلكهم ألبتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم، فكما اقتضت حكمته امتحان أبي البشر، اقتضت امتحان أولاده من بعده به، فتحصل السعادة لمن خالفه وعاداه، وينحاز إليه من وافقه وولاه.

2- وأبقاه مجازاة له على صالح عمله السابق:

ومنها أنه لما سبق حكمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة، وقد سبق له طاعة وعبادة، جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر، فإنه سبحانه لا يظلم أحداً حسنة عملها، فأمّا المؤمن، فيجزيه بحسناته في الدنيا والآخرة، وأمّا الكافر، فيجزيه بحسناته ما عمل في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له شيء، كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

3- أملى له ليزداد إثماً:

وبقاؤه إلى يوم القيامة لم يكن كرامة في حقه، فإنّه لو مات كان خيراً له،وأخف لعذابه، وأقل لشره، ولكن لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه، والقدح في حكمته، والحلف على اقتطاع عباده، وصدهم عن عبوديته، كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه، فأبقي في الدنيا، وأملى له ليزداد إثماً، على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشرّ في العقوبة، كما كان رأسهم في الشر والكفر. ولما كان مادة كل شر فعنه تنشأ، جوزي في النار مثل فعله، فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلاً ظاهراً وحكمة بالغة.

4- وأبقاه ليتولى المجرمين:

ومن حكم إبقائه إلى يوم الدين أنّه قال في مخاصمته لربّه: {أرأيتك هذا الذَّي كرَّمت عَلَيَّ لئن أخَّرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريَّته إلاَّ قليلاً } [الإسراء: 62] . وعلم الله - سبحانه - أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث أبقاه له، وقال له بلسان القدر: هؤلاء أصحابك وأولياؤك، فاجلس في انتظارهم، وكلما مرّ بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لي ما ملكتك منه، فإني أتولى الصالحين، وهم الذين يصلحون لي، وأنت ولي المجرمين من الذين غنوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي، قال تعالى: { إنَّه ليس له سلطان على الَّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون - إنَّما سلطانه على الَّذين يتولَّونه والَّذين هم مشركون} [النحل: 99-100] .
فأما إماتة الأنبياء والمرسلين، فلم يكن ذلك لهوانهم عليه، ولكن ليصلوا إلى محل كرامته، ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم، وليحيا الرسل بعدهم، يري رسولاً بعد رسول، فإماتتهم أصلح لهم وللأمة، أما هم فلراحتهم من الدنيا، ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور، ولا سيما أنه قد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به.
وأمّا الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة، بل أطاعوهم بعد مماتهم، كما أطاعوهم في حياتهم، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم، بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم،
والله هو الحي الذي لا يموت، فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمة. هذا وهم بشر، ولم يخلق الله البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام، بل جعلهم خلائف في الأرض، يخلف بعضهم بعضاً، فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف، ولضاقت بهم الأرض، فالموت كمال لكل مؤمن، ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا، ولا هناء لأهلها بها، فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة. ( شفاء العليل : 327 ) .

اكتب تعليق

أحدث أقدم