الحسد



الحسد
تعريف الحسد
الحسد لغةً:
قال في "لسان العرب": الحسَد معروفٌ، حسَده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حسَدًا، وحسَّده: إذا تمنَّى أن تتحوَّل إليه نعمتُه وفضيلتُه أو يُسلَبَهما .
وقال الفيروزآبادي: حسده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه، حَسَدًا وحُسودًا وحَسادَةً وحَسَّدَه: تمنَّى أن تتحوَّل إليه نعمتُه وفضيلتُه، أو يُسلبَهما.
تعريفه اصطلاحًا:
هو تمنِّي زوال نعمة المحسود، وإن لم يَصِرْ للحاسدِ مثلُها، أو تمنِّي عدم حصول النِّعمة للغير.
وقال الجُرجانيُّ: الحسد تمنِّي زوال نعمة المحسود إلى الحاسد.
وقال الكفويُّ: الحسد: اختلافُ القلب على الناس؛ لكثرة الأموال والأملاك.
وقال ابن عاشور: هو إحساسٌ نفسانيٌّ مركَّبٌ من استحسان نعمةٍ في الغير، مع تمنِّي زوالها عنه؛ لأجل غَيرةٍ على اختصاص الغير بتلك الحالة، أو على مشاركته الحاسد

الحسد في القرآن:
جاء الحسد في القرآن على وجه الذَّم في مواضعَ كثيرة؛ إليك طرفًا منها:
قال - تعالى -: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5].
قال الرازيُّ: "الحسد، هو نهاية الأخلاق الذميمة، كما أن الشيطان هو النِّهاية في الأشخاص المذمومة؛ ولهذا السبب ختم الله مجامعَ الشرور الإنسانية بالحسد، وهو قوله:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]، كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة" .
وقال الحسين بن الفضل: "إنَّ اللهَ جمع الشرور في هذه الآية، وختمها بالحسد؛ ليعلم أنه أخسُّ الطبائع" .
وقال - تعالى -:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
قال محمد رشيد رضا: "{ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}ليبيِّن أن حسَدهم لم يكن عن شبهةٍ دينية، أو غيرةً على حقٍّ يعتقدونه، وإنما هو خُبث النفوس، وفساد الأخلاق، والجمودُ على الباطل، وإنْ ظهر لصاحبه الحقُّ".
وقوله - سبحانه وتعالى -: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54].
قال أبو السُّعود: مفيدةٌ للانتقال من توبيخِهم بما سبق إلى توبيخِهم بالحسد الذي هو شرُّ الرَّذائل وأقبحها، لا سيَّما على ما هم بمعزلٍ من استحقاقه .
وقال القرطبي: وهذا هو الحسدُ بعينه الذي ذمَّه الله تعالى .
وقال - جل وعلا -: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].
قال الزجَّاج: قيل: لا ينْبغي أَن يتمنَّى الرجل مالَ غيره، ومنْزلَ غيره؛ فإِن ذلك هو الحسد .
وقال ابن عبَّاس: لا يتمنَّى الرجل فيقول: لو أن لي مالَ فلان وأهلَه، فنهى الله عن ذلك، ولكن ليسأل اللهَ من فضله .
ومما ينبغي التنبيه إليه أنَّ النهي الوارد في هذه الآيةِ إنما يتعلَّق بما يكون من تمنِّي أمور الدنيا وزينتِها؛ كالأموال والقصور والنساء وغير ذلك، أما ما كان من تمنِّي الإنسان لمايعود عليه في الآخرة من الأجور - كالعلم الشرعيِّ، والدعوة إلى الله، والطاعات بشكل عام - فهذا مما لا يدخلُه النهيُ، إذا تجرَّد من تمنِّي زوال النِّعمة عن الغير.
الحسد في السنَّة:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إياكم والظنَّ؛ فإن الظنَّ أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تنافَسوا، ولا تحاسدوا ...)) .
قال ابن بطَّال: "وفيه: النهي عن الحسد على النِّعم، وقد نهى الله عبادَه المؤمنين عن أن يتمنَّوْا ما فضَّل الله به بعضَهم على بعض، وأمَرَهم أن يسألوه من فضله".
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قيل: يا رسول الله: أيُّ النَّاس أفضل؟ قال: ((كلُّ مَخموم القلب صدوق اللِّسان))، قالوا: صدوقُ اللِّسان نعرفه، فما مَخموم القلب؟ قال: ((هو النَّقيُّ التقيُّ، لا إثمَ عليه، ولا بغيَ، ولا غِلَّ، ولا حسدَ)).

قال ملا علي قاري: ((كلُّ مخموم القلب)): بالخاء المعجمة؛ أي: سليمِ القلبِ؛ لقوله - تعالى -: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]؛ من: خَمَمتُ البيت إذا كنستَه، على ما في القاموس وغيره.
فالمعنى: أن يكونَ قلبُه مكنوسًا من الأغبار...، ((صدوقِ اللسان)): بالجرِّ؛ أي: كلِّ مبالغ للصدق في لسانه، فيحصل به المطابقة بين تحسين لسانِه وبيانِه، فيخرج عن كونه منافيًا أو مرائيًا مخالفًا، "قالوا: صدوق اللسان": بالجرِّعلى الحكاية، ويجور رفعُه على إعراب الابتدائية،والخبر قولُه: "نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو النَّقيُّ"؛ أي: نقيُّ القلب، وطاهرُ الباطن عن محبَّة غير المولى.
"التقيُّ"؛ أيِ: المجتنب عن خطور السوى، "لا إثمَ عليه": فإنه محفوظٌ، وبالغفران محظوظ، وبعين العناية ملحوظٌ، ومن المعلوم أنَّ "لا" لنفي الجنس؛ فقوله: "ولا بغيَ"؛ أي: لا ظلم له.
"ولا غل"؛ أي: لا حقد.
"ولا حسدَ"؛ أي: لا يتمنَّى زوال نعمة الغير، من باب التَّخصيص والتعميم على سبيل التكميل والتعميم؛ لئلاَّ يُتوهَّم اختصاص الإثم بحق الله، فصرح بأنه لا مطالبةَ عليه لا من الخلق، ولا من جهة الخالق، والله تعالى أعلم بالحقائق.
قال الطيبي - رحمه الله -: قوله - تعالى -:{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3]؛أي: أخلصها للتقوى؛ من قولهم: امتحن الذَّهب وفتنه: إذا أذابه، فخلص إبريزه من خَبَثه ونقَّاه .
وعن عمر - رضي الله عنه -: أذهب الشهوات عنها .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يجتمعانِ في النار: مسلمٌ قتل كافرًا ثم سدَّد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمنٍ: غبارٌ في سبيل الله وفيحُ جهنَّم، ولا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمانُ والحسدُ)).
وعن ضَمُرة بن ثعلبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يزال النَّاسُ بخير ما لم يتحاسَدوا )) .
الحسد من أقوال السلف:
قال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -: "كلُّ الناس أستطيع أن أُرضيَه إلا حاسدَ نعمة؛ فإنه لا يُرضيه إلا زوالُها" .
وقال ابنُ سيرين: "ما حسدتُ أحدًا على شيء من أمر الدنيا؛ لأنَّه إن كان من أهل الجنَّة، فكيف أحسُده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النَّار، فكيف أحسُده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟".
وقال الحسنُ البصري: "ما رأيت ظالِمًا أشبهَ بمظلوم من حاسدٍ؛ نفَسٌ دائمٌ، وحزنٌ لازمٌ، وغَمٌّ لا ينفَدُ" .
وقال أبو حاتم: "الواجب على العاقل مجانبةُ الحسد على الأحوال كلِّها؛ فإنَّ أهون خصال الحسد هو ترك الرِّضا بالقضاء، وإرادة ضد ما حَكَمَ الله - جلَّ وعلا - لعباده، ثم انطواء الضمير على إرادة زوالِ النِّعَم عن المسلم، والحاسد لا تهدأ رُوحه، ولا يستريح بدنُه، إلا عند رؤية زوال النِّعمة عن أخيه، وهيهات أن يساعد القضاءُ ما للحساد في الأحشاء".

وقال الجاحظ: "ومتى رأيتَ حاسدًا يصوِّب إليك رأيًا إن كنت مصيبًا، أو يرشدُك إلى صوابٍ إن كنت مخطئًا، أو أفصح لك بالخير في غَيبتِه عنك، أو قصَّر من غيبته لك، فهو الكلْب الكَلِب، والنَّمر النَّمِر، والسمُّ القَشِب، والفحل القَطِم، والسَّيل العَرِم، إن مَلَكَ قتَل وسبَى، وإن مُلِكَ عصى وبغى، حياتُك موتُه، وموتُك عُرسُه وسرورُه، يصدِّق عليك كلَّ شاهد زور، ويكذِّب فيك كلَّ عدل مرضِيٍّ، لا يُحب من الناس إلا مَن يُبغضك، ولا يُبغض إلا مَن يُحبك، عدوُّك بطانةً، وصديقك علانيةً... أحسنُ ما تكون عنده حالاً أقلُّ ما تكون مالاً، وأكثر ما تكون عيالاً، وأعظم ما تكون ضَلالاً، وأفرح ما يكون بك أقربُ ما تكون بالمصيبة عهدًا، وأبعد ما تكون من الناس حمدًا، فإذا كان الأمر على هذا، فمجاورة الموتى، ومخالطة الزَّمْنَى، والاجتنان بالجدران، ومصر المصران، وأكل القردان - أهونُ من معاشرته، والاتصالِ بحبله".
وقال الجُرجاني: "كم من فضيلة لو لم تستترْها المحاسد لم تبرَحْ في الصدور كامنةً، ومنقبةٍ لو لم تُزعجها المنافسةُ لبقِيت على حالها ساكنة!
لكنَّها برزت فتناولتْها ألسنُ الحسَّد تجلوها، وهي تظن أنها تمحوها، وتُشهرها وهي تحاول أن تسترَها؛ حتى عَثر بها من يعرف حقَّها، واهتدى إليها من هو أولى بها، فظهرت على لسانه في أحسنِ معرِضٍ، واكتست من فضله أزينَ ملبَس؛ فعادت بعد الخمول نابهةً، وبعد الذبول ناضرةً، وتمكَّنت من برِّ والدها فنوَّهت بذكره، وقدرت على قضاء حقِّ صاحبها فرفعت من قدره: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]".
أول من حسد إبليس:
خلق الله آدمَ - عليه السلام - وشرَّفه ورفَع منزلته، وأمر الملائكة بالسجود له ، ولكنَّ إبليس الذى كان يعبد الله مع الملائكة ، رغم انه لم يكن منهم طرفة عين قاس وتكبَّر وحسد أدم عليه السلام على هذه المنزلة؛ قال - تعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 11، 12].
قال قتادة: حسد عدوُّ اللهِ إبليسُ آدمَ - عليه السلام - ما أعطاه من الكرامة، وقال: أنا ناريٌّ، وهذا طيني .
قال ابن القيم: الحاسد شبيهٌ بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس، وزوالِ نِعَمِ الله عنهم، كما أنَّ إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدًا، فالحاسد من جُند إبليس .
      

1 تعليقات

إرسال تعليق

أحدث أقدم